التخلي عن الصومال مرة أخرى سيقوي حركة الشباب المجاهدين

يبدو أن أمريكا لا تحسن التعامل مع الصومال أبدًا. فعلى مدى عقود، اتبعت العلاقات الأمريكية مع هذا البلد الفقير، الذي يتمتع بموقع استراتيجي في القرن الإفريقي، نمطًا متكررًا: تدخل قوي يتبعه إهمال طويل. وخلال فترات الإهمال، يتجذر العنف والإرهاب ويهددان استقرار المنطقة بأسرها، مما يضطر الولايات المتحدة للعودة من جديد. بحسب مقال لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية.

 

وها هي أمريكا مرة أخرى تتجه نحو إهمال الصومال، وقد يكون هذا القرار خطيراً لكل من المنطقة والمصالح الأمريكية. بحسب الصحيفة.

 

تعمل إدارة ترامب حاليًا على إعادة صياغة السياسة الأمريكية في إفريقيا، من خلال تقليص المساعدات الخارجية، وتخفيض برامج تدريب القوات المحلية التي تحارب الجماعات الإرهابية المرتبطة بالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. والفكرة هي تقليص الوجود الأمريكي مع دعم الجيوش الإفريقية بقدرات استخباراتية وتقنية متقدمة. كما قال الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم): “نحن نركز على التمكين بدلاً من الاعتماد”.

 

وبموجب خطة وزير الدفاع بيت هيغسيث لموازنة وزارة الدفاع، سيتم تحويل الأموال إلى أولويات الرئيس دونالد ترامب، بما في ذلك العمليات على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة وتحديث الترسانة النووية. ولا تحظى القيادة الأمريكية في إفريقيا، التي تدير آلاف الجنود الأمريكيين في القارة، بأولوية كبيرة في هذه الخطة. بحسب الصحيفة.

 

لا شك أن بعض إعادة الترتيب في القارة كان مطلوبا. ففي العام الماضي، طالب قادة المجلس العسكري في النيجر -الذين استولوا على السلطة في انقلاب عام 2023- بانسحاب القوات الأمريكية من قاعدة أغاديز لمكافحة الإرهاب. وكان أكثر من ألف جندي أمريكي يشنون عمليات من هناك ضد التمرد الإسلامي في منطقة الساحل. وقد احتلت القوات الروسية القاعدة الأمريكية السابقة في العام الماضي.

 

في الصومال، لا تُجبر الولايات المتحدة على المغادرة، بل تغادر خدمة لأولويات جديدة في البيت الأبيض. ففي هذا العام، وفي إطار التجميد العالمي للمساعدات الخارجية الذي فرضه ترامب، قطعت الولايات المتحدة التمويل عن وحدة القوات الخاصة التابعة للجيش الصومالي المعروفة باسم “داناب” أو “البرق”، والتي كانت الأكثر فاعلية في محاربة حركة الشباب، الفرع الأكثر فتكًا من تنظيم القاعدة. وبدون مبلغ 1.5 مليار دولار سنويًا كانت تتلقاه من الولايات المتحدة، يكافح الحكومة الصومالية المثقلة بالأعباء المالية لدفع رواتب مقاتلي داناب. كما تم أيضاً خفض الدعم المالي الأمريكي لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في الصومال. بحسب الصحيفة.

 

الانسحاب من الصومال في هذا التوقيت يشكل خطورة كبيرة لأن حركة الشباب في حالة هجوم. فقد استولت على عدة مدن رئيسية خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وتسيطر الآن على ثلث البلاد. ووفقًا لمنظمة بيانات مواقع وأحداث الصراعات المسلحة غير الربحية، من المرجح أن الحركة أطلقت هجومها في فبراير لاستغلال الثغرات الأمنية التي خلفتها قوات الاتحاد الإفريقي بعد انسحاب التمويل الأمريكي. وقد أثار هجوم حركة الشباب في ولاية هيرشبيلي مخاوف من اقتراب الحركة من العاصمة مقديشو، التي تبعد نحو 200 ميل إلى الجنوب، حيث تعرض مطارها الدولي للقصف في أبريل.

 

كما استهدفت حركة الشباب مصالح أمريكية مباشرة. ففي عام 2020، نفذت الحركة هجومًا على قاعدة جوية أمريكية في كينيا أسفر عن مقتل ثلاثة أمريكيين. بل إن الحركة خططت أيضاً لتنفيذ هجوم إرهابي على غرار أحداث 11 سبتمبر ضد الولايات المتحدة. بحسب الصحيفة.

 

قد يعتبر العديد من الأمريكيين أن الصومال مكان بعيد لا يحمل أهمية استراتيجية كبرى. إلا أن الواقع يختلف، إذ أن هذا البلد الشاسع يتموضع في موقع رئيسي يطل على المحيط الهندي وخليج عدن ومدخل البحر الأحمر. وقد تسببت عمليات القرصنة الصومالية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في تعطيل حركة الشحن العالمية، مما كبد الاقتصاد العالمي مليارات الدولارات. وتقع في الجهة المقابلة من الخليج اليمن الخاضع لسيطرة الحوثيين المدعومين من إيران، الذين هم في صراع غير معلن مع “إسرائيل” والولايات المتحدة.

 

لقد أظهرت التجارب السابقة حجم الكارثة التي تقع عندما تصرف الولايات المتحدة نظرها عن الصومال. بحسب الصحيفة.

 

فخلال الحرب الباردة في ثمانينيات القرن الماضي، كان الصومال حليفًا للولايات المتحدة في ظل حكم الديكتاتور محمد سياد بري، لكن سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 دفع أمريكا إلى قطع علاقاتها بسبب سجل بري المروع في مجال حقوق الإنسان. واستمر هذا الانقطاع حتى عام 1992 عندما أرسلت الولايات المتحدة قواتها للتعامل مع المجاعة الناجمة عن نهب الميليشيات لمساعدات الإغاثة. غير أن هذا التدخل انتهى نهاية مأساوية في عام 1993 بعد معركة مقديشو، التي أسقطت فيها مروحيتان أمريكيتان من طراز بلاك هوك، وتم جر جثث الجنود الأمريكيين في الشوارع. بحسب الصحيفة.

 

وبعد هجمات 11 سبتمبر وصعود حركة الشباب المجاهدين كواحدة من أخطر فروع تنظيم القاعدة، اضطرت أمريكا للعودة إلى الصومال. لكن ترامب، في نهاية ولايته الأولى، أمر بسحب نحو 700 جندي أمريكي من الصومال ضمن التزامه بإنهاء الحروب الخارجية. غير أن تقليص القوات أضعف قدرة الجيش الأمريكي على مكافحة التهديد الإرهابي. ومع تنامي قوة حركة الشباب، أعاد الرئيس جو بايدن عدة مئات من الجنود الأمريكيين إلى البلاد. والآن، يريد ترامب سحبهم مجددًا.

 

الصومال دولة تعاني من اضطرابات مزمنة. وقد ساعد الدعم الأمريكي في منعها من الانهيار الكامل. وكما كشفت هجمات 11 سبتمبر بشكل مأساوي في أفغانستان، فإن الدول الفاشلة التي تتحول إلى ملاذات آمنة للإرهابيين تشكل تهديدًا قد يمتد إلى ما هو أبعد من المنطقة — ويصل في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة ذاتها. بحسب الصحيفة الأمريكية.