الكينيون يقاتلون لبناء بلادهم بأيديهم
بقلم: وانيديا نجويا وموردكاي أوغادا
نُشر على Wandia Njoya’s blog.
في الذكرى الأولى للاحتجاجات ضد مشروع قانون المالية 2024 واقتحام البرلمان، لا يسعنا إلا أن نشعر بأن كينيا كانت تمر بنفس المرحلة قبل 30 عامًا.
قبل ثلاثة عقود، كنا نحن في العشرينيات من عمرنا نواجه ظروفًا مماثلة. فقد أصبح النخبة أثرياء عبر التورط في علاقات تجارية مع الحكومة، بتراخيص أعطيت لأنفسهم بموجب تقرير ندجوا عام 1971. لقد قمعوا المنشقين بقسوة، ونفوا واضطهدوا أصحاب الأفكار والمعتقدات، وارتكبوا مجازر بحق جماعات بكاملها، وفي التسعينيات قمعوا أصوات جيل ناشئ كانت فرصه الاقتصادية تُسحق بواسطة برامج التكيف الهيكلي (SAPs) التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي أضعفت هذا الجيل كما أرهقته جائحة الإيدز بلا علاج آنذاك.
اليوم، يواجه الشباب الكينيون في هذا العقد ظروفًا مشابهة. الاقتصاد غير داعم لأي إنتاج حقيقي، ويقمع الابتكار الشعبي، ثم تقوم الدولة بتقديم نسخة منحرفة منه من خلال “السياسات” أو “الشركات الناشئة”. هذا الوضع حتمي في بلد يحكمه نخب ثرية بلا إنجازات أو ابتكارات، وتعتمد على العنف البوليسي لإخفاء عارها وفراغها. وفي الوقت ذاته، يعاني الكينيون من تبعات جائحة كوفيد-19 وبرامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد والبنك الدولي، تحت ذريعة سداد الديون التي كان الكينيون أنفسهم يعارضون أخذها.
عندما يواجه جيل نفس الديناميكيات التي واجهها آباؤه قبل 30 عاماً، ويواجه حكومة صمّاء كما فعل آباؤه، ويدفع إلى نفس الدائنين الذين دمّروا اقتصاده قبل 30 عاماً، لم يعد كافياً اللجوء إلى الإنصات للشباب وفتح حوار كما جرى سابقاً. لقد سبق لنا أن طالبنا بضبط النفس من الشرطة واحترام القضاء وحقوق الإنسان، بيد أن تلك الدعوات لم تُجِد نفعًا. لذا، علينا أن نسأل: “لماذا مازلنا هنا بعد 30 عاماً؟”
نحن هنا، لأن كينيا حسب كلمات باتريك جاتارا، “جربت كل شيء عدا إصلاح أنماط الفكر المنهجي الذي أنتج النظم القمعية والسرّاقة خلال العقود الخمسة الماضية، وأنماط الفكر هذه نابعة من انقسامات رغم نصف قرن من الحكم الاستعماري…”. طيلة ثلاثة عقود، جيل ناضل حتى حصل على دستور نشأ من إرادة الشعب، أقرّ أن مشاكل كينيا تتجاوز فقط احترام سيادة القانون وفروع الدولة الثلاثة. هناك معتقدات أساسية وممارسات اقتصادية وقضايا هيكلية تمنع كينيا من التحرّر فعلياً من إرثها الاستعماري.
اعتمد هذا الجيل على تراث كبار السن لديه، وفحص كل شيء من طرق بناء الطرق، لإدارة البيئة، لإنتاج الثقافة الشعبية، لتعليم الأطفال، لزراعة الطعام وتخزين البذور، لإدارة المياه، وحتى للتعبير عن الإيمان الديني. ولكن في كل ميدان كان الحكم نفسه: مؤسساتنا موروثة استعماريًا. ومع ذلك رفضت النخبة السياسية الاستفادة من معرفة أبناء البلد المؤهلين والخبراء. بدلاً من ذلك، عرضتهم الحكومة للإهانة، برؤية خبراء غربيين، أقل مستوىً منا، يضعون السياسات ويشرفون علينا في ورش عمل تفرض علينا تحت ذريعة “المعايير الدولية” وكثرة الشركات الناشئة.
بمعنى آخر، نحن هنا اليوم بدون فرص عمل حقيقية أو حياة اجتماعية ذات مغزى، نصرخ في وجه حكومة صمّاء، لأن مؤسسات كينيا لا تزال استعمارية متخلقة، وتمنع الكينيين من بناء بلادهم.
لذلك، لم يعد كافياً أن نكرر حجج السفارات الغربية بالدعوة إلى احترام حقوق الإنسان والحوار مع الشباب. نحن نخطو خطوة جديدة عن تلك التي بدأها آباؤنا منذ 30 عاماً، ونسائل الجهات الدولية المسؤولة عن جمود كينيا. كما أن الاستعمار لم يكن مجهودًا محلياً فقط، بحيث لا يمكن القول أن إبقاء البنية الاستعمارية سليمة بعد 60 عاماً من الاستقلال هو شأن محلي بحت.
لا يكفي إعداد الحسابات لمعرفة كيف أن “قروش العُقاب” الدولي من صندوق النقد والبنك الدولي حافظوا علينا في هذه الورطة، خصوصاً بعد تسريبات USAID في عهد ترامب التي أكدت ما كنا نعرفه دائماً: هناك جهد متعمد لعرقلة اقتصادات أفريقيا. كنا نعلم ذلك منذ أن نكرومه كتب عن الاستعمار الجديد، أو حين قرأنا تجربة جون بيركنز كـ “قاتل اقتصادي”، أو من خلال أعمال الاقتصاديين السياسيين كدامبيسا مويو وثانديكا مولكانداواير وفرانسوا-كزافييه فيريشاف وميشيل هدسون. ولكن الآن جاءتنا التأكيدات من قلب واشنطن نفسها. أزمة أفريقيا ليست نتيجة خطآتها فقط.
بسبب هؤلاء الفاعلين الدوليين، لا يسعنا إلا ربط الأزمة الاقتصادية في كينيا بما يحدث في الصومال والسودان والكونغو ونيجيريا. ليس من قبيل الصدفة أن يمر الكينيون بنفس الاضطرابات المجازية والاقتصادية التي تعاني منها بلدان أفريقية أخرى، بمرافقة حملة متعمدة للسيطرة على ما يعرفه ويقوله الأفارقة. نعلم أن نيروبي أصبحت مركزًا للإعلام الدولي في المنطقة، وأن السفارات الأجنبية والمنظمات المانحة والشركات تعمل جاهدة لإدارة صحافتنا ونظمنا التعليمية. بينما يتعرض إعلامنا المحلي، مثل “أفريكان ستريم”، وصحفيين مثل ديفيد هنديّين لحملات إغلاق والتشويه.
لا خيار أمامنا سوى القول إن هذه الدورة الثلاثينية للانهيار الاجتماعي مُفتعلة عمدًا من منظمات تتنكر كمنظمات مالية. ما يحدث بالفعل هو أن أفريقيا – وكينيا تحديدا – تُعاد تهيئتها كما قبل 30 عاماً. كل ابتكار أو إمكانية تصنيعية من جيل شاب لا يستطيع الأوليغارشية العالمية أن تكفّ عن الخوض فيه، يُكسَر من خلال هذه “الإصلاحات الاقتصادية”. هذا التمركز يدفع الشباب لقتال اقتصادهم، وأولئك الذين ينجون يُضطرون للبدء من الصفر، بينما تختار الغرب بعض الشباب لمضاعفة تدريبهم ليصبحوا النخبة القادمة. نتذكر أن مسيرة روتو السياسية بُنيت بنفس النموذج، حين كان مع “شباب كانو” 1992 بهدف سحق المعارضة ضد موي.
هذه البرامج ليست مجرد قضايا مالية، بل هي إعادة تشكيل اجتماعي. كل 30 عاماً، يدمر الإمبريالية ما استطعت الدول الإفريقية أن تبنيه بعرق ودماء، فتبدأ الأجيال الشابة من الصفر بينما كأن الأجيال السابقة لم تفع شيئاً. وبذلك تضمن الإمبريالية قطع الجسور بين المعرفة المتراكمة للأجيال السابقة وجيل الشارع الحالي. ويكتمل الانقطاع عبر إعلام يوجه الشباب نحو الذكاء الاصطناعي بدلاً من المعرفة.
أما النخبة الكينية، فإنها في غرورها تضاعف البيروقراطية والضرائب لتضمن أن أي شخص يريد الابتكار أو مهنة أو تعليمًا يواجه جبالًا من الإجراءات والتطبيقات الرقمية. في كل قطاع، يقول لهم الدولة إنه لا يمكن العمل أو الإنتاج دون تقبيل يد السياسيين والبيروقراطيين ورجال الأمن. الحكومة تفضل إغلاق المشاريع على تأجيل الضرائب (أو الرشاوى).
إن الكأس السامة التي نُعطيها هو “التواصل”. فقد تغلغل في كل مجالات المجتمع وصار بديلاً مفضّلًا للعدالة. عند انبعاث رائحة فساد مجتمعنا، نجد فرسان الدين والسياسة “يتحادثون” مع الشباب بدلًا من إنصافهم. وعندما يستشعر الآباء تقصير التعليم، يدعون إلى لقاءات يقولون فيها “تحاوروا”، مشيرين إلى تقصير الأهل، كتشتيت للانتباه عن ظلم النظم. ورغم أن القانون الكيني ينص على “المشاركة العامة”، فإنها تسمم القرارات وتبرر الظلم من خلال التطبيق الشكلي للمشاركة.
من الناحية الفلسفية، المشاركة العامة مسيئة لأنها تفترض الموافقة. فهل هناك أحد في بلد يوافق على ضريبة عقابية أو تهجير المجتمع لصالح مشروع عشوائي؟ المشاركة ليست خطابًا، ولا ينبغي أن تؤخذ كهكذا في مجتمع متحضّر. حتى الآن إذا قُتل بريء في مراكز الشرطة، يتصل أعلى السياسيين بأبيه لـ “التحاور” بدل منع القتل خارج نطاق القضاء. وعندما يخطط الشباب احتجاجًا تخليدًا لذكرى أصدقائهم، ماذا تفعل وزارة الداخلية؟ تدّعي أنها مستعدة للالتقاء و”التحدث” مع أسرهم. لقد أوصلتنا هذه المثالية إلى سمعة فريدة، إذ جمّعت “التواصل” الوظيفة الأساسية للحضارة مع السم القاتل والعنف.
هذا هو المشهد العالمي الذي يواجهه الشباب الكيني، بشجاعة وإيمان فقط. مطالبتهم لرئيس البلاد روتو بالتنحي تتجاوز الرجل لتصل إلى جذور النخبة السياسية والبيروقراطية التي “لا تفهم”. النخبة الكينية لا ترى أي مشكلة في اقتصادنا؛ بل تعتبر الشعب هو المشكلة التي تنهش الاقتصاد. وتعتقد النخبة جازمة أن “أكل الكعكة” أو “رقمنة الكعكة” هي الحل عندما لا يجد الكينيون خبزًا يأكلونه.
يجب على أفريقيا أن تدرك أن مصدر زعزعة استقرارها واحد: نظام عالمي يعيد ضبط اقتصاداتها ويسند إلى السلطة نخبة جامدة لا تستطيع قيادة بلادها للأمام، وستبقى في السلطة حتى تهرم في عين الرأي العام، أو حتى يُجبرها جيل الشباب التالي على الخروج. مثل هذه الانتقالات بين الأجيال تكون عنيفة ومهينة للمجتمعات. إنها تشوه كرامة المعرفة، والشيخوخة، والحكمة. وتمكن النخبة القديمة من تقليد الشباب حتى تذبل. وفي هذه العملية، تجعل النخبة الأكبر نسلهم يزدري المعرفة والحكمة والعمر، ليصبحوا لاحقًا هم ما احتقروا في شبابه.
يقال إن الحضارة تُقاس عندما يزرع الإنسان أشجارًا يجنيها الجيل القادم. لكن في أفريقيا، كل جيل يزرع الأشجار، ومع اقتراب الجيل التالي من الظل.. تأتي برامج التكيف وتقطعها، ثم يطلبون من الجيل الجديد أن يزرع مرة أخرى بينما يقف في الشمس.
في كينيا، تم ذلك على نظام الرعاية الصحية، وعلى التعليم، وحتى – ولا أقصد التورية – الأشجار الغابية نفسها!
وهذا هو الدورة التي خضّعتها لها الغرب طوال خمسة قرون. لقد سحق كل جيل عبر العبودية، ثم الاستعمار، ثم الاستعمار الجديد، ثم التكيف الهيكلي. في كل مرحلة، تمّ استبدال النخبة القديمة بذات جديدة أكثر شبابًا وملاءمة. وبعد كل ذلك، تتجرّأ الغرب على تعليمنا كيف نطور أنفسنا.
لقد فهم شباب كينيا جيدًا أن نخبته السياسية والبيروقراطية الحالية عاجزة عن فهم الأزمة، ناهيك عن إنهائها، وتحرير الشباب من الحصار. لكن كالمعتاد، تتدخل السفارات الغربية نيابةً عن تلك النخب الراكدة، كأنها تمنح إرشادات لإدارة الاحتجاجات عبر بيانات حقوقية، وتدعوا الشباب الكيني ليروا إن كان بإمكانهم تسلم مقاليد الأمور من الحرس القديم.
وهكذا عمل المجتمع الكيني منذ ستينيات القرن الماضي، حين خطط البريطانيون للخدمة المدنية قبل الاستقلال، وأعدّت المؤسسات الأميركية تعليمهم وخططهم الاقتصادية. منذ ذلك الوقت يُحدّد كل انتقال جيل على مستوى مؤسسات بريتون وودز وتديره السفارات هنا. ولهذا، فإن السياسيين والبيروقراطيين الكينيين لا يترددون في الحديث عن مهنية شرطة هولندية وأميركية تجاهنا، بغض النظر عن سجل الشرطة العنيف، خاصة في الولايات المتحدة، الذي أطلقت شرارة احتجاجات حياة السود مهمة عالميًا. أو أن الصحفيين يحرصون على سمعة كينيا عالميًا أكثر مما يهمهم ما إذا كانت كينيا تخدم شعبها.
بعد ستين عامًا، بات اعتماد كينيا على الغرب في إدارة التحوّلات المجتمعية أمراً مرهقًا. كينيا لا تحتاج للرجوع إلى “شركاء” غربيين أو سياسيين محليين من أجل “التنمية”. نريد بناء بلادنا بأيدينا، بعقولنا وعضلاتنا. شبابنا تلقوا التعليم، وهم يمتلكون الطاقة والمعرفة والأفكار للتطبيق. وقبل كل شيء، يمتلكون الالتزام. الكينيون وحدهم هم من يمكنهم أن يقرر ما هو الأنسب لبلادهم. الكينيون وحدهم هم من يمكنهم أن يبنوا كينيا. الشعب – فَوْق كل شيء.